«هذا أغرب شيء تعرضت له»، قالها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش قبل انتهاء ولايته. كان بوش الابن يقصد حادثة تعرضه للرشق بالحذاء من قبل أحد الصحفيين العراقيين؛ ففي 14 ديسمبر عام 2008، وأثناء انعقاد مؤتمر صحفي يجمع بوش ورئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي، قام الصحفي منتظر الزيدي بإلقاء فردتي حذائه باتجاه الرئيس الأمريكي.
استطاع بوش بسرعة فائقة أن يتفادى الضربة، لكن الحذاء أصاب العلم الأمريكي الموضوع خلفه. أكمل بوش المؤتمر الصحفي، وتدخل الأمن المرافق للرئيس الأمريكي سريعاً وألقوا القبض على من فعل تلك الجريمة. وفي لحظتها كسروا ذراع منتظر الزيدي، وأخرجوه من القاعة.
لم تستغرق كل تلك التفاصيل سوى بضع ثوان، لا تتجاوز 27 ثانية، إذا أضفنا له الثواني الإضافية التي خلع فيها منتظر حذاءه ورفعه تجاه بوش. قال وهو يلقي حذاءه الأول «هذه قبلة الوداع من الشعب العراقي أيها الكلب الغبي»، وقال هو يلقي حذاءه الثاني «وهذه من الأرامل والأيتام والأشخاص الذين قتلتهم في العراق». لكن تلك الجمل البسيطة والثواني القليلة شكلت رداً عالمياً مهولاً، والأهم أنها شكلت مصير حياة منتظر نفسه.
منتظر من مواليد عام 1975، في مدينة الصدر الواقعة في ضواحي بغداد. يتبع المذهب الشيعي، لكنه ظل ذا انتماء سياسي مستقل، بعيداً عن حسابات التكتلات الكبرى. كان منتظر رافضاً للغزو الأمريكي للعراق منذ اليوم الأول. وكان يبث تقاريره عبر قناة «البغدادية»، الذي عمل بها منذ إنشائها، مهاجماً كل ما يتعلق بالسياسة الأمريكية، سواء تجاه العراق أو في أي دولة أخرى.
يروي أصدقاء منتظر عنه أنه رفض عدداً من عروض العمل المغرية من قنوات موالية للاحتلال الأمريكي، أو حتى تتبنى وجهة النظر التي ترى في الغزو الأمريكي حلا لمشكلة العراق. رغم العداء الدفين بين الزيدي ونظام صدام حسين الذي اعتقل عائلة الزيدي أكثر من مرة.
تعرض الزيدي لحادثة اعتقال أو اختطاف، كما تسمى رسمياً عام 2007. فبعد الغزو الأمريكي للعراق شهد العراق موجة من تصفية الصحفيين المعارضين للغزو خلال حوادث اختطاف تنتهي بقتل الصحفي وإلقاء جثته. في 16 نوفمبر عام 2007، لم يعد منتظر لمنزله. اتصلت عائلته على هاتفه المحمول فرد عليهم شخص آخر قائلاً لهم عليهم أن ينسوا منتظر للأبد.
لم يطلب الخاطفون فدية، فأدرك الجميع أن منتظر سيظهر بعد أيام مقتولاً. لكن يروي منتظر أن خاطفيه ضربوه حتى أفقدوه الوعي وأخذوه داخل سيارة. ثم قيدوا يديه، وعصبوا عينيه برابطة عنقه. يقول إنه ظل على هذه الحالة لمدة ثلاثة أيام، يقدم له فيها القليل من الأكل والشرب. وبعد انقضاء الأيام الثلاثة أطلقوا سراحه معصوب العينين.
كانت عودة منتظر حياً أشبه بالمعجزة. مما دفع منظمة «مراسلين بلا حدود» لإصدار بيان ترحب به بعودته، وتلفت النظر إلى حوادث التصفية التي طالت عدداً من الصحفيين في تلك الحقبة.
بعد هذا الاختطاف بأسابيع قليلة تعرض منتظر للاعتقال على يد القوات الأمريكية؛ ففي يناير 2008، داهمت القوات الأمريكية منزل منتظر ليلاً. وفتشوا محتوياته، واصطحبوه لجهة غير معلومة، لكنهم سرعان ما أطلقوا سراحه.
لكن تم اعتقال منتظر مرة أخرى في نفس العام، بعد أن قذف بوش بحذائه. كان منتظر يُجر خارج القاعة التي يجري فيها المؤتمر الصحفي والدم يسيل منه. ظهر منتظر بعد أيام وهو قيد المحاكمة، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات. لكن لاحقاً خفف الحكم إلى عامين فقط. وفي 15 سبتمبر عام 2009 أفرج عن الزيدي بسبب خلو سجله الجنائي من أي جرائم سابقة.
رغم قصر المدة فلم تكن سلسة أو سهلة؛ فقد توجه منتظر بعد الإفراج عنه إلى سويسرا لتلقي العلاج لما تعرض له في سجنه؛ فقد كسرت أسنانه، وأصابت معدته أضرار بالغة وكبده من الضرب المباشر عليهما. كما أصيب ظهره وعموده الفقري بسبب الضرب بالكراسي والعصي عليه.
لكن كانت ثمة عقوبة أخرى تنتظر الزيدي. بعد أسبوعين من خروجه من السجن؛ حيث دعي منتظر لندوة صحفية في باريس، وأثناء جلوس منتظر على المنصة قام صحفي عراقي يدعى سيف الخياط بإلقاء حذائه على منتظر.
الخياط كان يصرخ وهو يلقي حذائه مستهجناً قيام منتظر بقذف الرئيس الأمريكي، ومستهجناً أيضاً وصف منتظر للوجود الأمريكي في العراق بأنه احتلال. الخياط قال لمنتظر إن سقوط صدام حسين ونظامه الديكتاتوري أهم، ولا يمكن توصيف الوجود الأمريكي بأنه احتلال. أخرج الأمن الفرنسي الخياط من القاعة. لكن حرص منتظر أن يطلب منهم عدم الاعتداء عليه.
على ذكر الخروج من القاعة، يقول منتظر إنه لم يكن يتوقع أن يخرج من قاعة المؤتمرات حياً بعد إلقاء حذائه على بوش. يقول منتظر إنه أعطى بطاقته الشخصية وأوارق ثبوتية تخصه إلى أحد أفراد أمن القاعة، وطلب منه تسليمها لأهله إذا لم يخرج من القاعة. فقد كان يتوقع أن يبادر الأمن الرئاسي إلى قتله مباشرة.
بعد أن صار منتظر الزيدي بطلاً شعبياً تلقى عروضاً مالية ضخمة مكافأة على ما فعله ضد بوش. لكنه رفض تلقي تلك الأموال ريثما يقوم بتأسيس جمعية خيرية تضمن استفادة الشعب العراقي من تلك الأموال. وأعمال منتظر موجهة بشكل أساسي للأرامل واليتامى الذين خلفهم الاحتلال الأمريكي للعراق؛ فقد خلف الغزو الأمريكي للعراق قرابة خمسة ملايين يتيم، وثلاثة ملايين مهجر، وعشرات الآلاف من المعاقين والمعتقلين. وفي عام 2010 أصدر منتظر كتابه بعنوان «التحية الأخيرة للرئيس بوش»، التي تناول فيه أحداث غزو العراق، وبالطبع سرد حادثته مع بوش ودوافعه لها.
بدأ التجمع الشعبي حول منتظر في التناقص حين اندلع الربيع العربي، وخصوصاً حين قامت الثورة السورية؛ فقد كان منتظر في الجهة الرافضة للثورة السورية، واصطف مع بشار الأسد ضد معارضيه. ودخل إلى سوريا في مؤتمرات داعمة لبشار، وأكد أن الهدف من هذه الثورة هو إسقاط سوريا التي وصفها بآخر قلاع الأمة العربية، وأنها تواجه حرباً كونية ومؤامرة عالمية تريد الإضرار بها. وأنه يدعم الإصلاحات التي يقوم بها بشار الأسد.
تغفر الجموع المتعاطفة مع الزيدي له ما يفعل بعد حادثة الحذاء. فقد كانت صرخته في وجه بوش صرخة نيابة عن كل العالم العربي الذي يعاني من الغطرسة الأمريكية. وظل السؤال الذي يسأله منتظر في كل المؤتمرات هو ما مصير حذائه الذي ألقاه على بوش. منتظر أجاب أنه لا يعرف مصيره تحديداً، لكن على الأرجح أن الأمن تخلص منه نهائياً كي لا يصبح رمزاً ضد الإدارة الأمريكية عبر السنوات.
بعد مرور قرابة 15 عاماً على الحادثة، و20 عاماً على غزو العراق، يصرح منتظر عام 2023 بأنه غير آسف على ما فعل. وصرح في مقابلة مع إحدى القنوات الأمريكية بأن الأسف الوحيد الذي لديه أنه لم يكن يملك سوى فردتي حذاء. وأن إلقاء حذائه في وجه بوش لم يكن بمثابة لحظة غضب أو أنه فقد السيطرة على أعصابه فجأة، بل إنها كانت لحظة يترقبها وينتظرها منذ بداية الغزو الأمريكي للعراق. كان يريد منها توجيه رسالة للمحتل الأمريكي أن الاحتلال يستقبل بالأحذية لا الورود.
لكن رغم اختفاء الحذاء، وقيام نوري المالكي بتوجيه أوامره بإزالة كل النصب التذكارية التي أقيمت بالجهود الشعبية للحذاء، مثل النصب الذي أقيم في مدينة تكريت العراقية، وهو عبارة عن نصب عملاق لحذاء؛ ستظل قصة منتظر الزيدي تجوب وسائل الإعلام والمرويات الشعبية عن رجل اعترض على رئيس أكبر دولة في العالم، وألقى حذاءه في وجهه حين احتل بلده، ولم يستقبله بالورود كما فعل آخرون.